فشل المعارضة السودانية- أسباب الأزمة الراهنة وحلول المستقبل

المؤلف: د. ياسر محجوب الحسين09.06.2025
فشل المعارضة السودانية- أسباب الأزمة الراهنة وحلول المستقبل

في أي دولة، تمثل المعارضة المدنية، نظرياً، دعامة أساسية للحكم الرشيد ومواجهة التحديات الوطنية، إذ تعكس آمال المواطنين وتطلعاتهم نحو مستقبل أكثر ازدهارًا.

في السودان، بعد الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير في أبريل 2019، ارتفعت سقف التوقعات تجاه "قوى الحرية والتغيير"، حيث كان يحدو السودانيين أمل كبير بأن هذه القوى ستقود البلاد نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية.

لكن، شهدت مسيرة هذه القوى العديد من الانتكاسات والإخفاقات، خاصةً في طريقة تعاملها مع الأزمة الراهنة التي تعصف بالبلاد، مما أثار موجة من الاستياء.

وهنا يبرز سؤال جوهري: لماذا لم تتمكن المعارضة المدنية السودانية، وعلى رأسها "قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي"، التي يعتبر رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك أحد أبرز قادتها، من القيام بدور فعال في مواجهة الأزمة الحالية واقتراح حلول واقعية؟

أولاً: الموقف المتذبذب والغامض من الحرب

يتفرع من هذا السؤال الأساسي جملة من التساؤلات الأخرى: لماذا تبنت موقفًا مبهمًا تجاه قوات الدعم السريع، وتجنبت إدانة جرائمها بشكل واضح وصريح؟

كيف أدت مواقفها السياسية المائعة إلى إضعاف المبادرات الوطنية وربط مصير الحركة المدنية بأهداف خارجية لا تخدم بالضرورة مصلحة الشعب السوداني؟ كيف أثر غياب القيادة الملهمة والموحدة في قدرتها على تعبئة الجماهير والتأثير في مجريات الأحداث؟ وكيف أدى الترقب الدائم للحلول التي تأتي من الخارج إلى وضع المعارضة في موقف المتفرج، بدلًا من أن تكون قوة مؤثرة؟ وكيف أدى الاعتماد على الدعم الخارجي والانقسامات الداخلية إلى فقدانها أي تمثيل حقيقي للقواعد الشعبية في الداخل؟

إن امتناع المعارضة عن إدانة قوات الدعم السريع والجرائم التي ارتكبتها في حق الإنسانية، واستمرارها في انتظار الحلول من الخارج دون بناء قوة داخلية متماسكة تحمل مشروعًا وطنيًا واضحًا، جعلها جزءًا من المشكلة بدلًا من أن تكون جزءًا من الحل.

يجب أن يتم التواصل مع المجتمع الدولي والإقليمي، رغم أهميته الظاهرة في بعض الأحيان، على أساس توافق داخلي واسع النطاق، وبالاعتماد على رؤية وطنية خالصة تعبر عن مصالح الشعب السوداني. إن استعادة المعارضة لقرارها السياسي المستقل هو الخطوة الأولى نحو دمجها في الحراك الوطني، ومن ثم الاضطلاع بدورها في تحقيق الحكم الرشيد ومواجهة الأزمات بكل كفاءة واقتدار.

إن الموقف المتراخي الذي اتخذته المعارضة السودانية المدنية، بقيادة عبدالله حمدوك وقوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، والتي انقسمت بعد فترة وجيزة بسبب الصراعات الداخلية إلى كيانات جديدة مثل (تقدم) و(صمود)، يمكن وصفه بالضبابي، في أحسن الأحوال، تجاه الحرب التي اندلعت في 15 أبريل/ نيسان 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

هذه الحرب لم تكن مجرد صراع على السلطة كما تم تصويرها في بعض الأحيان، بل هي تمرد سافر على الدولة ومؤسساتها. هذا الموقف المتذبذب جر على المعارضة الكثير من الانتقادات اللاذعة، وفتح المجال أمام اتهامات مباشرة بدعم الميليشيا سياسيًا، أو على الأقل، توفير غطاء ناعم لتحركاتها الإجرامية.

ثانياً: التودد والتقارب مع قوات الدعم السريع

من بين الانتقادات الموجهة إلى قوى الحرية والتغيير، عدم إدانتها الصريحة لقوات الدعم السريع، على الرغم من تورطها في إشعال فتيل الحرب وارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المدنيين. بدلاً من ذلك، جاءت بياناتها في كثير من الأحيان بصيغة محايدة وسلبية، وكأنها تحمل الطرفين المسؤولية، متجاهلة الفرق الشاسع بينهما من حيث الشرعية والتصرفات.

بل إنها وقعت اتفاقًا مع قائد الميليشيا برعاية أجنبية في إثيوبيا. كما تشبثت بما يعرف بـ(الاتفاق الإطاري)، الذي كان مثار جدل واسع قبل اندلاع الحرب، والذي اعتبره الكثيرون محاولة لتفكيك الجيش وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية بما يخدم مصالح فئة قليلة.

جرى هذا الاتفاق برعاية رئيس بعثة الأمم المتحدة، الذي طلبه حمدوك إبان فترة رئاسته لمجلس الوزراء دون علم الجيش. وبعد اندلاع المعارك، استمر بعض قادة المعارضة في الحديث عن هذا الاتفاق، وكأنه لا يزال ساري المفعول، متجاهلين التحولات الكارثية التي فرضتها الميليشيا على أرض الواقع.

أحد المواقف الأكثر إثارة للجدل كان توصيف الأزمة بأنها "صراع بين جنرالين"، وهو توصيف غير مقبول يساوي بين مؤسسة الدولة العسكرية النظامية وبين مليشيا مسلحة خارجة عن القانون.

ثالثاً: الاعتماد على الخارج وتفضيل المبادرات الدولية

في الكثير من مواقفها، بدت المعارضة وكأنها تتبنى رؤية خارجية للأزمة، وتركز على المبادرات الدولية والإقليمية المرتبطة بمصالح أجنبية، دون تقديم رؤية وطنية مستقلة أو بذل جهود حقيقية لتوحيد الصف الوطني.

 شاركت المعارضة في مبادرات خارجية مشبوهة لم تضع مساءلة قوات الدعم السريع عن انتهاكاتها ضمن أولوياتها، وكأنها تتعامل مع الميليشيا كطرف سياسي، وليس كقوة متمردة مسلحة.

ومن المآخذ الأخرى على المعارضة استمرارها في المطالبة بـ"إصلاح الجيش" وإعادة هيكلته، بينما لم تبد الجدية نفسها في المطالبة بنزع سلاح قوات الدعم السريع أو محاسبتها على الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها.

لقد تعززت الشكوك والاتهامات ضد المعارضة المدنية بناءً على عدة قرائن، منها استمرار التواصل المباشر أو غير المباشر مع قيادة قوات الدعم السريع حتى بعد اندلاع الحرب، في لقاءات كشفت عنها تقارير مسربة وأخرى علنية. كما أن علاقات بعض قادة المعارضة بدول متهمة بدعم الميليشيا زادت من الشبهات حول أجنداتهم الخفية.

كما كشفت تصريحات بعض القادة عن ازدواجية في الخطاب؛ فبينما يدعون في العلن إلى وقف الحرب، يروجون في الخفاء لفكرة أن انتصار الجيش يمثل خطرًا بعودة النظام القديم، في تبرير ضمني لبقاء الميليشيا كعامل توازن.

هذا الموقف أدى إلى تآكل رصيد المعارضة السياسي والشعبي، وأعطى انطباعًا بأنها لم تكن حريصة على مصلحة الوطن بقدر حرصها على استعادة السلطة بأي ثمن، حتى لو كان ذلك من خلال التحالف الضمني مع ميليشيا ارتكبت فظائع لا تغتفر بحق شعبها.

رابعاً: التصدعات الداخلية وغياب القيادة الجامعة

تسببت الانقسامات العميقة داخل صفوف المعارضة في إغراء الأطراف الخارجية بالتعامل الانتقائي معها، مما أدى إلى تعزيز تبعيتها للخارج وتقويض جهود توحيد الكلمة على أسس وطنية متينة.

هذا التشتت يضعف الشرعية التمثيلية لهذه الفصائل لدى القاعدة الشعبية في الداخل، التي قد لا تجد صوتها ممثلًا بشكل حقيقي في كيانات تعتمد على الحصول على الشرعية من الخارج، خاصة بعد الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع.

بالإضافة إلى هذا الاعتماد على الخارج، تعاني المعارضة المدنية السودانية من ضعف تنظيمي مزمن، وانقسام حاد، وغياب قيادة موحدة. وقد تفاقمت هذه التحديات بشكل خاص بعد وصولها إلى السلطة التنفيذية عقب سقوط نظام البشير.

هذه الهشاشة الهيكلية، التي تتجلى في تعدد الفصائل والتيارات السياسية والأيديولوجية، أضعفت قدرتها على تبني مواقف موحدة وفعالة في مواجهة التحديات المختلفة.

فالانقسامات السياسية والأيديولوجية، التي تتراوح بين الأحزاب التقليدية وما يسمى بالقوى الثورية الحديثة والناشطين المستقلين، تخلق صراعات مستمرة حول الرؤى والأولويات والتكتيكات، مما يعيق صياغة إطار عمل وطني موحد.

كما أن غياب القيادة الملهمة والقادرة على جمع الصفوف، بعد تفكك تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، أدى إلى تشتت المرجعية وتنافس الشخصيات على الزعامة، مما أضعف التماسك الداخلي وقوض القدرة على حشد الجماهير والتأثير في مسار الأحداث.

هذا الضعف المؤسسي، حيث تعتمد بعض الجماعات على قيادات فردية وهياكل تنظيمية هشة، يجعلها أكثر عرضة للانشقاق ويقلل من قدرتها على التخطيط الإستراتيجي وتنفيذ الخطط بفعالية.

إن استمرار هذه الحالة من الاعتماد على الخارج والضعف الداخلي يثير تساؤلات جدية حول قدرة المعارضة السودانية على لعب دور فعال ومؤثر في مستقبل البلاد.

في لحظات ضعف السلطة المركزية، تزداد فرص المعارضة في التأثير والحضور، كما حدث عقب انتفاضات شعبية تاريخية مثل أكتوبر/ تشرين الأول 1964، وأبريل/ نيسان 1985، وديسمبر/ كانون الأول 2018، حيث خرجت الجماهير إلى الشوارع، وبرزت المعارضة وكأنها الصوت السياسي المعبر عن هذا الحراك. لكن هذا الصعود غالبًا ما يكون مؤقتًا إذا لم يترجم إلى بنية سياسية مستقرة قادرة على استيعاب التحولات وقيادة التغيير.

إن التوحد الظاهري الذي ظهر داخل صفوف المعارضة شكل لحظة استثنائية في مسارها، لكنه سرعان ما تلاشى بسبب التباينات الأيديولوجية والمناطقية والجهوية، مما أدى إلى حالة من التشرذم أفقدت المعارضة قدرتها على التأثير السياسي الفعال.

المثال الأبرز على ذلك هو ما حدث لقوى الحرية والتغيير، التي بدأت كجسم موحد وقوي، ثم سرعان ما تفتت بفعل صراعات القيادة وتناقض الرؤى حول أولويات المرحلة الانتقالية.

خامساً: الانفصال عن الشارع والتركيز على النخب

بمرور الوقت، فقدت المعارضة الاتصال بالجماهير، وانغمست في الصراعات الداخلية والسعي للحصول على مكاسب تفاوضية على حساب التعبير عن تطلعات الشارع.

سيصبح هذا الانفصال أكثر وضوحًا كلما اختزلت المعارضة دورها في اللقاءات النخبوية أو المؤتمرات الصحفية، بدلاً من النزول إلى الميدان وتنظيم الجماهير وتقديم خطاب سياسي واضح يعالج قضايا الناس اليومية.

هل ستتعلم المعارضة السودانية الدرس بأن الاعتماد المفرط على الدعم الخارجي، دون امتلاك أدوات داخلية للتغيير، يفقدها الكثير من مصداقيتها؟ فكلما انتظرت الضوء الأخضر من العواصم الدولية، بدت عاجزة عن اتخاذ قراراتها انطلاقًا من رؤية وطنية مستقلة، مما يضعف ثقة الشعب بها.

بالإضافة إلى ذلك، لم تعد الخطابات الثورية التي لا تستند إلى خطط عملية واضحة مقنعة للشارع، الذي أصبح أكثر وعياً وإلحاحاً في مطالبه.

لذا، من الضروري أن تعيد قوى المعارضة تقييم استراتيجياتها، وأن تعمل بجدية على بناء مشروع وطني شامل يعتمد على الإرادة الداخلية ووحدة الصف، بدلاً من انتظار الحلول أو الوعود من الخارج، التي غالبًا ما تأتي محملة بأجندات لا تخدم بالضرورة مصلحة السودان وشعبه.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة